Latest News

ما قصة حجر الرشيد؟

هل أبهرتك يوماً الحضارة المصرية القديمة؟ هل تساءلت كيف استطاع علماء التاريخ معرفة كل هذه المعلومات عن الحضارة المصرية؟ هل تعلم أن الترجمة كانت في قلب هذه القصة المثيرة من قصص اكتشاف التاريخ وإزالة الستار عن أسرار هذه الحضارة العظيمة.

تبدأ القصة في عام 1799 أثناء حملة نابليون على مصر عندما تم تكليف الضابط الفرنسي بيير فرانسوا بوشار بإدارة عمليات تحصين قلعة قايتباي في مدينة رشيد وأثناء القيام بعمليات التحصين لاحظ بوشار وجود نقش بلغة غريبة على أحد الأحجار التي سيتم استخدامها في عمليات التحصين وعلى الفور أدرك هذا الضابط أهمية هذا الحجر فقام بالاتصال مع الجنرال مينو (قائد الفرنسيين في رشيد)، واندهش عندما رأى بوشار يُحضر إليه الحجر في مساء نفس اليوم. فاتخذ حينها منو ثلاث قرارات رئيسية تعتبر بالغة الأهمية، أولها نقل الحجر إلى المجمع العلمي المصري في القاهرة "والذي كان قد أنشأه نابليون عام 1798"، ثانيها تكليف بوشار شخصياً بمرافقة الحجر مع جنوده عبر ضفاف النيل إلى القاهرة، ثالثاً طلب من بوشار وآخرين أخذ "بصمة" النقوش على الحجر، وكان لأخذ بصمة للنقوش التي كانت على الحجر أهمية بالغة أتاحت دراسة هذه النقوش للعلماء في بلدان متعددة دون الحاجة للحصول على الحجر نفسه. 

وهنا نجد فطنة الفرنسيين منذ اللحظة الأولى لأهمية الحجر، فقد اعتقدوا مباشرةً أن هذا الحجر يعتبر فرصة عظيمة لدراسة الحروف الهيروغليفية، بل إنها فرصة قد تتيح إيجاد مفتاح الكتابة الهيروغليفية وحل لغزها، وهكذا أصبح العالم على علم الآن بهذا الكنز الثمين الذي بحوزة علماء الجيش الفرنسي في مصر.

بعد ذلك تغيرت الأمور، فقد أُجبر الإنكليز الجنرال مينو الذي تولى (قيادة الجيش) بعد بونابرت وكليبير على الاستسلام في أغسطس/آب عام 1801، ولم يكن ليخفى على الإنكليز أهمية حجر الرشيد فقد جعلوا الحصول عليه شرطاً من شروط استسلام الفرنسيين. ورغم عناد منو وإصرار أعضاء المجمع العلمي المصري، إلا أن الإنجليز نجحوا في أخذ الحجر إلى المتحف البريطاني، ولازال معروضاً هناك منذ ذلك الوقت ويزوره سنوياً أكثر من 8 مليون سائح، وتصر بريطانيا على أنه من حقها باعتباره غنائم حرب رغم مطالبات الجهات الرسمية المصرية باستعادته.

ويعد حجر الرشيد (Rosetta Stone) من أشهر الأحجار الأثرية التي تم اكتشافها إن لم يكن أشهرها على الإطلاق، وهو حجر مصنوع من الغرانيت الصلب ارتفاعه 113 سم وعرضه 76 سم وسماكته 27 سم، ينتمي الحجر إلى عهد سلالة البطالمة اليونانيين، حاكمي مصر. وهم الذين فتحوا البلاد مع الإسكندر الأكبر قادمين من اليونان، قبل الميلاد بثلاثة قرون، ثمّ تَبنّوا لقبَ "فرعون" ليضفوا الشرعية على حكمهم أمام السكان المصريين. 

ويعود تاريخ النقوش على الحجر الى عام 196 قبل الميلاد. وتكمن أهمية هذا الحجر في أن النقوش التي عليه كُتبت بثلاث لغات مختلفة مرتبة من الأعلى الأسفل الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة، ويعتبر أول أثر يحتوي على اللغة الهيروغليفية مع مايقابله من اللغات الأخرى. وهذا مامكن العلماء من فك رموز الكتابة الهيروغليفية بعد مقارنتها ومقابلتها مع النصوص الأخرى، وقام بهذه المهمة العالم جان شامبليون فرانسوا والذي يسمى أحياناً أبو علم المصريات بسبب جهوده الجبارة في حل ألغاز الكتابة المصرية القديمة والتي فتحت الباب واسعاً أمام دراسة تاريخ الحضارة المصرية القديمة، وأحيا اللغة الهيروغليفية التي كانت تعتبر من اللغات الميتة، ولكنه اعتمد أيضاً على جهود عالم آخر هو عالم الفيزياء توماس يونغ وبالرغم من كون يونغ مختصاً بعلم الفيزياء وله بصمته فيها إلا أنه كان شغوفاً بالحضارة المصرية وكان أن حصل على نسخة من الحجر عام 1814 وبعد العمل عليها اكتشف أن أسماء الملوك والشخصيات الهامة تحاط بشكل بيضوي يحيط بها يسمى الخرطوشة، وهذا مامكن العالم شامبليون من معرفة طريقة لفظ بعض الحروف الهيروغليفية بعد مقارنتها باليونانية القديمة والتي كان يتقنها شامبليون تماماً، وبمزيد من الدراسات المقارنة تمكن شامبليون أن يتعرف على القيمة الصوتية لكثير من العلامات، وفي عام 1822 أعلن شامبليون على العالم أنه تمكن من فك رموز اللغة المصرية القديمة، وأن بنية الكلمة في اللغة المصرية لا تقوم على أبجدية فقط، وإنما تقوم على علامات تعطي القيمة الصوتية لحرف واحد وأخرى لاثنين وثالثة لثلاثة.

وتوالت الدراسات والاكتشافات بعد ذلك لاستكمال أعمال شامبليون ومن أهم هذه الاكتشافات مايسمى لوحة تانيس أو "مرسوم كانوب" وهو حجر يماثل حجر الرشيد من حيث أنه يحوي ثلاث نصوص متطابقة مكتوبة بثلاث لغات مختلفة ولكنه أكثر اكتمالاً من حجر الرشيد. وأكد ما جاء في الإكتشافات والافتراضات التي قدمها شامبليون.

أما بالنسبة للنص المنقوش على حجر الرشيد فهو عبارة عن مرسوم من الكهنة المجتمعين في مدينة منف في محافظة الجيزة، يشكرون فيه الملك بطلميوس الخامس لقيامه بوقف الأوقاف على المعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات، وقد أراد الكهنة أن يسجلوا هذا العرفان بالفضل للملك البطلمي بالخط الرسمي وهو الخط الهيروغليفي، وخط الحياة اليومية السائد في هذه الفترة وهو الخط الديموطيقي، ثم بالخط اليوناني وهو الخط الذي تكتب به لغة البطالمة الذين كانوا يحتلون مصر.

ولا يمكننا في النهاية إلا أن نقول إن قصة اكتشاف اللغة الهيروغليفية ماهي إلا قصة ترجمة مثيرة ولكنها شديدة التعقيد، تصدى لها مجموعة من ألمع العقول، وما كان لهذه العملية أن تتم لولا اكتشاف حجر الرشيد أولاً وشغف هؤلاء الرجال بعملهم وإخلاصهم لهذا العمل.